لقد أنزل الله، عزّ وجلّ، القرآن من أجل هداية البشر إليه وإلى طريقه المستقيم، وقيادتهم إلى جنّته ورضوانه، وإنقاذهم من إبليس ومن المصير الذي يقودهم إليه، قال تعالى: {قَدْ جَاءكُم منَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ × يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15 ـ 16 .
القرآن هو حبل الله الممدود بين السّماء والأرض، من تمسّك به نجا من الهلاك وارتفع إلى السّماء، وتخلّص من جاذبية الأرض والطين واقترب من مولاه. لذا، فلا غنى للمسلم عن مصاحبة القرآن وتلاوته، والتلاوة ذاتها عبادة، والقرآن هو الكتاب المتعبّد بتلاوته. ولكن، كيف نقرأ القرآن؟ هل نقرؤه لمجرد التلاوة والاستكثار من الحسنات؟ هل نقرؤه لتذكّر الآخرة وتذكّر الموت والبعث والجزاء؟ هل نقرؤه لنعجب ببلاغته ونطرب لجمال عبارته وألفاظه؟
فاسأل نفسك ما الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه حين تقرأ القرآن؟ أليس هو إنهاء الوِرد وتحقيق أكبر قدر من الحسنات؟ لقد أصبح جُلّ اهتمامنا، حين نقرأ القرآن، الوصول إلى نهاية السورة دون الاهتمام بتفهّم ما نقول.. بل وقد ينتقل الواحد منّا من سورة إلى أخرى دون أن يشعر، وإذا سُئلنا عن الآيات الّتي استوقفتنا في تلاوتنا، فلن نجد جوابًا. بل إنّ الأمر أسوأ من ذلك.. فإنّ كثيرًا من المسلمين يتعامل مع القرآن على أنّه نزل للأموات وليس للأحياء، فلا يلتفتون إليه إلاّ عندما يموت الميت، فتصدح أجهزة التّسجيل في البيوت بالقرآن لعدّة أيّام، ويحضر القرّاء إلى البيوت والمقابر في مناسبات الموت وذكريات الموتى.
إنّ الذي يقرأ كتابًا، أيَّ كتاب، له هدف من قراءته، والّذي يستمع إلى شريط أو يقرأ صحيفة، له هدف من ذلك.. والقرآن ليس بأقلّ من هذه الأشياء، فلا ينبغي أن نقرأه لمجرّد القراءة، أو طلب الثواب فقط، دون النّظر إلى الهدف الأسمى الذي من أجله أنزله الله عزّ وجلّ. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} ص .29 ألا نرى كيف حثّ الله خلقه على أن يتدبّروا كلامه، ومن تدبّر كلامه عرف الربّ عزّ وجلّ، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضّله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته، فألزم نفسه الواجب، فحذِر ممّا حذّره مولاه الكريم، ورغِب فيما رغّبه فيه ربّه العظيم، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاء، فاستغنى بلا مال، وعزّ بلا عشيرة، وأنِس بما يستوحش منه غيره.
إنّ المؤمن يتصفّح القرآن ليؤدّب به نفسه.. همّته إيقاع الفهم، لما ألزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عمّا نهى، ليس همّته متى أختم السورة؟ همّته متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين؟ متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصّابرين؟ متى أكون من الصّادقين؟ متى أكون من الخائفين؟ متى أكون من الرّاجين؟ متى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة؟ متى أتوب من الذنوب؟ متى أعرف النّعم المتواترة؟ متى أشكره عليها؟ متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على ما تهوى؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طرفي؟ متى أحفظ فرجي؟ متى أستحي من الله حقّ الحياء؟ متى أشتغل بعيبي؟ متى أصلح ما فسد من أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزوّد ليوم معادي؟ متى أكون عن الله راضيًا؟ متى أكون بالله واثقًا؟ متى أكون بزجر القرآن متّعظًا؟ متى أكون بذِكره عن ذِكر غيره مشتغلاً؟ متى أُحِبّ ما أحَبّ؟ متى أبغِض ما أبغَض؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهّب ليوم موتي وقد غيّب عنّي أجلي؟ متى أفكّر في خلوتي مع ربّي؟ متى أفكّر في المنقلب؟ متى أحذر ممّا حذّرني منه ربّي من نار حرّها شديد وقعرها بعيد وعمقها طويل؟ لا يموت أهلها فيستريحوا، ولا تُقال عثـرتهم ولا ترحم عبرتهم